فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة المزمل عليه الصلاة والسلام:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) الحادثات بالله حصلت، فقلوب العارفين بالله عرفت ما عرفت وأرواح الصديقين بالله ألفت من ألفت وفهوم الموحدين بساحات جلاله وقفت، ونفوس العابدين بالعجز عن استحقاق عبادته اتصفت وعقوةل الأولين والآخرين بالعجز عن معرفة جلاله اعترفت.
قوله جلّ ذكره: {يا أيُّها المُزّمِّلُ قُمِ الّيْل إِلاّ قلِيلا}.
أي: المتزمل المتلفِّف في ثيابِه. وفي الخبر: «أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مِرْطُ من شعْرٍ وبرٍ، وقالت عائشة رضي الله عنها: نصفُه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله وهو يُصلِّي، وطولُ المِرْطِ أربعةُ عشر ذراعا».
{نِّصْفهُ أوِ انقُصْ مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ ورتِّل الْقُرْءان ترْتِيلا}.
{قُمِ الّيْل إِلاّ قلِيلا} نصفه بدلٌ منه؛ أي: قم نصف الليل، وأنْقِصْ من النصف إلى الثلث أوزِدْ على الثلث، فكان عليه الصلاة والسلام في وجوب قيام الليل مُخيّرا ما بين ثلث الليل إلى النصف وما بين النصف إلى الثلث. وكان ذلك قبل قرْضِ الصلوات الخمس، ثم نُسِخ بعد وجوبها على الأمة- وإن كانت بقيت واجبة على الرسول صلى الله عليه سلم.
ويقال: يا أيها المتزمل بأعباء النبوّة.. {قُمِ الّيْل}.
ويقال: يا أيها الذي يُخْفِي ما خصصناه به قُمْ فأنذِرْ.. فإنّا نصرناك.
ويقالك قُمْ بنا.. يا منْ جعلنا الليل ليسكن فيه كلُّ الناس.. قُمْ أنت.
فليسكنْ الكلُّ.. ولْتقُمْ انت.
ويقال: لمّا فرض عليه القيام بالليل أخبر عن نفْسِه لأجل أُمّته إكراما لشأنه وقدرة.
وفي الخبر: «أنه ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا...» ولا يُدْرى التأويل للخبر، أو أنّ التأويل معلوم.. وإلى أن ينتهي إلى التأويل فللأحبابِ راحاتٌ كثيرة، ووجوهٌ من الإحسان موفورة.
قوله جلّ ذكره: {عليْهِ ورتِّلِ الْقُرْءان ترْتِيلا}.
ارْتعْ بِسِرِّك في فهْمِه، وتأنّ بلسانِك في قراءته.
قوله جلّ ذكره: {إِنّا سنُلْقِى عليْك قولا ثقِيلا}.
قيل: هو القرآن. وقيل: كلمة لا إله إلا الله.
ويقال: الوحي؛ وسمّاه ثقيلا أي خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان.
ويقال: ثقيل أي: له وزن وخطر. وفي الخبر «كان إذا نزل عليه القرآن- وهو على ناقته- وضعت جِرانها، ولا تكاد تتحرك حتى يُسرّى عنه».
وروى ابن عباس: أنّ سورة الأنعامِ نزلتْ مرة واحدةٍ فبركت ناقةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل القرآن وهيبته.
ويقال: {ثقِيلا} سماعه على منْ جحده.
ويقال: (ثقيلا بِعِبْئِه- إلاّ على من أُيِّدِ بقوةٍ سماوية، ورُبِّي في حِجْرِ التقريب).
قوله جلّ ذكره: {إِنّ ناشِئة الّيْلِ هي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا}.
أي: ساعات الليل، فكلُّ ساعةٍ تحدث فهي ناشئة، وهي أشد وطئا أي: مُوطّأة أي: هي أشدُّ موافقة للسانِ والقلبِ، وأشدُّ نشاطا.
ويحتمل: هي أشدُ وأغلظُ على الإنسان من القيام بالنهار.
{وأقْومُ قِيلا} أي: أبْينُ قولا.
ويقال: هي أشدُّ موطأة للقلب وأقوم قيلا لأنها أبعدُ من الرياء، ويكون فيها حضورُ القلبِ وسكونُ السِّرِّ أبلغ وأتمِّ.
قوله جلّ ذكره: {إِنّ لك في النّهارِ سبْحا طوِيلا}.
أي: سبحا في أعمالك، والسبح: الذهب والسرعة، ومنه السباحة في الماء.
فالمعنى: مذاهبُك في النهار فيما يشْغلُك كثيرةٌ- والليلُ أخْلى لك.
قوله جلّ ذكره: {واذْكُرِ اسْم ربِّك وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِلا}.
أي: انقطِعْ إليه انقطاعا تاما.
{رّبُّ الْمشْرِقِ والْمغْرِبِ لآ إِله إِلاّ هُو فاتّخِذْهُ وكِيلا}.
الوكيلُ منْ تُوكلُ إليه الأمورُ؛ أي: توكّلْ عليه وكِلْ أمورك إليه، وثِقْ به.
ويقال: إنك إذا اتخذْت من المخلوقين وكيلا اختزلوا مالك وطالبوك بالأجرة، وإذا اتخذتني وكيلا أُوفِّرُ عليك مالك وأُعطيك الأجر.
ويقال: وكيلُك ينفق عليك من مالِك، وأنا أرزقك وأنفق عليك من مالي.
ويقال: وكيلُك منْ هو في القدْرِ دونك، وأنت تترفّعُ أن تكلِّمه كثيرا. وأنا ربُّك سيِّدُك وأحبُّ أنْ تكلمني وأُكلِّمك.
قوله جلّ ذكره: {واصْبِرْ على ما يقولون واهْجُرْهُمْ هجْرا جمِيلا}.
الهجْرُ الجميل: أن تعاشرهم بظاهرك وتُباينهم بِسِرِّك وقلبك.
ويقال: الهجرُ الجميل ما يكون لحقِّ ربِّك لا بِحظِّ نفْسِك.
ويقال: الهجرُ الجميلُ ألا تُكلِّمهم، وتكلمني لأجْلهم بالدعاء لهم.
وهذه الآية منسوخة بآية القتال.
قوله جلّ ذكره: {وذرْنِى والْمُكذِّبِين أُوْلِى النّعْمةِ ومهِّلْهُمْ قلِيلا}.
أي: أُولِي التّنعُّم وأنْظِرْهم قليلا، ولا تهتم بشأنهم، فإني أكفيك أمرهم.
قوله جلّ ذكره: {إِنّ لديْنآ أنكالا وجحِيما وطعاما ذا غُصّةٍ وعذابا ألِيما}.
ثم ذكر وصف القيامة فقال: {يوْم ترْجُفُ الأرْضُ والْجِبالُ وكانتِ الْجِبالُ كثِيبا مّهِيلا}.
ثم قال: {إِنّآ أرْسلْنآ إِليْكُمْ رسُولا شاهِدا عِليْكُمْ كمآ أرْسلْنآ إِلى فِرْعوْن رسُولا}.
يعني: أرسلنا إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا عليكم {كمآ أرْسلْنآ إِلى فِرْعوْن رسُولا}، {فعصى فِرْعوْنُ الرّسُول فأخذْناهُ أخْذا وبِيلا} ثقيلا.
{فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ يوْما} من هوْلُه يصير الولدانُ شيبا- وهذا على ضرْبِ المثل.
{السّماءُ مُنفطِرُ بِهِ} أي بذلك: اليوم لهوله.
ويقال: مُنْفطِرٌ بالله أي: بأمره.
{كان وعْدُهُ مفْعُولا}: فما وعد اللّهُ سيصدقه.
{إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ}: يعني هذه السورة، أو هذه الآيات موْعِظةٌ؛ فمنْ اتعظ بها سعِد.
{إِنّ ربّك} يا محمد {يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِن ثُلُثِى الّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطآئِفةٌ مِّن الّذِين معك} من المؤمنين.
{واللّهُ يُقدِّرُ الّيْل والنّهار} فهو خالقهما {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} وتطيعوه.
{فتاب عليْكُمْ} أي: خفّف عنكم {فاقْرءُواْ ما تيسّر مِن الْقُرْءانِ} من خمس آيات إلى ما زاد. ويقال: من عشْرِ آيات إلى ما يزيد.
{علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مّرْضى وءاخرُون يضْرِبُون في الأرْضِ} يسافرون، ويعلم أصحاب الأعذار، فنسخ عنهم قيام الليل.
{وأقِيمُواْ الصّلاة} المفروضة.
{وأقْرِضُواْ اللّه قرْضا حسنا} مضى معناه.
{وماتُقدِّمُواْ لأنِفُسِكُمْ مِّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ} أي: ما تقدِّموا من طاعة تجدوها عند الله ثوابا هو خيرٌ لكم من كلِّ متاع الدنيا. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
ومِنْ سُورةِ الْمُزّمِّلِ:
قوله تعالى: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ قُمْ اللّيْل إلّا قلِيلا}
روى زرارة بْنُ أوْفى عنْ سعْدِ بْنِ هِشامٍ قال: «قُلْت لِعائِشة: أنْبِئِينِي عنْ قِيامِ رسُولِ اللّهِ، قالتْ: أما تقرأ هذِهِ السُّورة: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ قُمْ اللّيْل إلّا قلِيلا} قُلْت: بلى قالتْ: فإِنّ اللّه افْترض الْقِيام فِي أوّلِ هذِهِ السُّورةِ، فقام النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصْحابُهُ حتّى انْتفختْ أقْدامُهُمْ، وأمْسك اللّهُ تعالى خاتِمتها اثْنيْ عشر شهْرا ثُمّ أنْزل التّخْفِيف فِي آخِرِ السُّورةِ، فصار قِيامُ اللّيْلِ تطوُّعا بعْد فرِيضةٍ» وقال ابْنُ عبّاسٍ: «لمّا نزلتْ أوّلُ الْمُزّمِّلِ كانُوا يقُومُون نحْو قِيامِهِمْ فِي شهْرِ رمضان حتّى نزل آخِرُها، وكان بيْن نُزُولِ أوّلِها وآخِرِها نحْو سنةٍ» وقوله تعالى: {ورتِّلْ القرآن ترْتِيلا}، قال ابْنُ عبّاسٍ: (بيِّنْهُ تبْيِينا) وقال طاوُسٌ: (بيِّنْهُ حتّى تفْهمهُ) وقال مُجاهِدٌ: {ورتِّلْ القرآن ترْتِيلا} قال: (والِ بعْضهُ على إثْرِ بعْضٍ على تُؤدةٍ).
قال أبُو بكْرٍ: لا خِلاف بيْن الْمُسْلِمِين فِي نسْخِ فرْضِ قِيامِ اللّيْلِ وأنّهُ منْدُوبٌ إليْهِ مُرغّبٌ فِيهِ؛ وقدْ رُوِي عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آثارٌ كثِيرةٌ فِي الْحثِّ عليْهِ والتّرْغِيبِ فِيهِ، روى ابْنُ عُمر عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «أحبُّ الصّلاةِ إلى اللّهِ صلاةُ داوُد كان ينامُ نِصْف اللّيْلِ ويقُومُ ثُلُثهُ وينامُ سُدُسهُ، وأحبُّ الصِّيامِ إلى اللّهِ صِيامُ داوُد كان يصُومُ يوْما ويُفْطِرُ يوْما» ورُوِي عنْ علِيٍّ: «أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي بِاللّيْلِ ثمانِي ركعاتٍ، حتّى إذا انْفجر عمُودُ الصُّبْحِ أوْتر بِثلاثِ ركعاتٍ ثُمّ سبّح وكبّر، حتّى إذا انْفجر الْفجْرُ صلّى ركْعتيْ الْفجْرِ».
وعنْ عائِشة: «أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي مِنْ اللّيْلِ إحْدى عشْرة ركْعة»
وقوله تعالى: {إنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا} قال ابْنُ عبّاسٍ وابْنُ الزُّبيْرِ: (إذا نشأْت قائِما فهِي ناشِئةُ اللّيْلِ كُلِّهِ) وقال مُجاهِدٌ: (اللّيْلُ كُلُّهُ إذا قام يُصلِّي فهُو ناشِئةٌ وما كان بعْد الْعِشاءِ فهُو ناشِئةٌ)؛ وعنْ الْحسنِ مِثْلُهُ، وقال فِي قوله تعالى: {أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا} قال: (أجهْدُ لِلْبدنِ وأثْبتُ فِي الْخيْرِ) وقال مُجاهِدٌ: {وأقْومُ قِيلا} قال: (أثْبتُ قراءة).
وقوله تعالى: {واذْكُرْ اسْم ربِّك وتبتّلْ إليْهِ تبْتِيلا} قال مُجاهِدٌ: (أخْلِصْ إليْهِ إخْلاصا) وقال قتادةُ: (أخْلِصْ إليْهِ الدُّعاء والْعِبادة) وقِيل: (الِانْقِطاعُ إلى اللّهِ وتأْمِيلُ الْخيْرِ مِنْهُ دُون غيْرِهِ) ومِنْ النّاسِ منْ يحْتجُّ بِهِ فِي تكْبِيرةِ الِافْتِتاحِ؛ لِأنّهُ ذُكِر فِي بيانِ الصّلاةِ، فيدُلُّ على جوازِ الِافْتِتاحِ بِسائِرِ أسْماءِ اللّهِ تعالى.
وقوله تعالى: {سبْحا طوِيلا}، قال قتادةُ: (فراغا طوِيلا).
وقوله تعالى: {هِي أشدُّ وِطاء} قال مُجاهِدٌ: واطأ اللِّسانُ الْقلْب مُواطأة ووِطاء ومنْ قرأ {وطْئا} قال: معْناهُ هِي أشدُّ مِنْ عملِ النّهارِ.
وقوله تعالى: {إنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيْ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ} إلى قوله تعالى: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْ القرآن}.
قال أبُو بكْرٍ: قدْ انْتظمتْ هذِهِ الْآيةُ معانِي: أحدُها: أنّهُ نسخ بِهِ قِيام اللّيْلِ الْمفْرُوض كان بدِيّا.
والثّانِي: دلالتُها على لُزُومِ فرْضِ الْقراءة فِي الصّلاةِ بِقوله تعالى: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْ القرآن}.
والثّالِثُ: دلالتُها على جوازِ الصّلاةِ بِقلِيلِ الْقراءة.
والرّابِعُ أنّهُ منْ ترك قراءة فاتِحةِ الْكِتابِ وقرأ غيْرها أجْزأهُ؛ وقدْ بيّنّا ذلِك فِيما سلف.
فإِنْ قِيل: إنّما نزل ذلِك فِي صلاةِ اللّيْلِ وهِي منْسُوخةٌ؛ قِيل لهُ: إنّما نسخ فرْضها ولمْ ينْسخْ شرائِطها وسائِر أحْكامِها وأيْضا فقدْ أمرنا بِالْقراءة بعْد ذِكْرِ التّسْبِيحِ بِقوله تعالى: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْهُ}.
فإِنْ قِيل: فإِنّما أمر بِذلِك فِي التّطوُّعِ فلا يجُوزُ الِاسْتِدْلال بِهِ على وُجُوبِها فِي الصّلاةِ الْمكْتُوبةِ؛ قِيل لهُ: إذا ثبت وُجُوبُها فِي التّطوُّعِ فالْفرْضُ مِثْلُهُ؛ لِأنّ أحدا لمْ يُفرِّقْ بيْنهُما وأيْضا فإِنّ قوله تعالى: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْ القرآن} يقْتضِي الْوُجُوب؛ لِأنّهُ أمْرٌ والْأمْرُ على الْوُجُوبِ، ولا موْضِع يُلْزِمُ قراءة القرآن إلّا فِي الصّلاةِ، فوجب أنْ يكُون الْمُرادُ الْقراءة فِي الصّلاةِ.
فإِنْ قِيل: إذا كان الْمُرادُ بِهِ الْقراءة فِي صلاةِ التّطوُّعِ والصّلاةُ نفْسُها ليْستْ بِفرْضٍ فكيْف يدُلُّ على فرْضِ الْقراءة؟ قِيل لهُ: إنّ صلاة التّطوُّعِ وإِنْ لمْ تكُنْ فرْضا فإِنّ عليْهِ إذا صلّاها أنْ لا يُصلِّيها إلّا بِقراءة، ومتى دخل فِيها صارتْ الْقراءة فرْضا، كما أنّ عليْهِ اسْتِيفاء شرائِطِها مِنْ الطّهارةِ وستْرِ الْعوْرةِ، وكما أنّ الْإِنْسان ليْس عليْهِ عقْدُ السّلمِ وسائِرُ عُقُودِ الْبِياعاتِ ومتى ما قصد إلى عقْدِها فعليْهِ أنْ لا يعْقِدها إلّا على ما أباحتْهُ الشّرِيعةُ؛ ألا ترى إلى قولهِ عليه السلام: «منْ أسْلم فلْيُسْلِمْ فِي كيْلٍ معْلُومٍ ووزْنٍ معْلُومٍ إلى أجلٍ معْلُومٍ» وليْس عليْهِ عقْدُ السّلمِ؟ ولكِنّهُ متى قصد إلى عقْدِهِ فعليْهِ أنْ يعْقِدهُ بِهذِهِ الشّرائِطِ.
فإِنْ قِيل: إنّما الْمُرادُ بِقوله تعالى: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْ القرآن} الصّلاةُ نفْسُها، فلا دلالة فِيهِ على وُجُوبِ الْقراءة فِيها؛ قِيل لهُ: هذا غلطٌ؛ لِأنّ فِيهِ صرْف الْكلامِ عنْ حقِيقةِ معْناهُ إلى الْمجازِ، وهذا لا يجُوزُ إلّا بِدلالةٍ؛ وعلى أنّهُ لوْ سلّم لك ما ادّعيْت كانتْ دلالتُهُ قائِمة على فرْضِ الْقراءة؛ لِأنّهُ لمْ يُعبِّرْ عنْ الصّلاةِ بِالْقراءة إلّا وهِي مِنْ أرْكانِها، كما قال تعالى: {وإِذا قِيل لهُمْ ارْكعُوا لا يرْكعُون} قال مُجاهِدٌ: أراد بِهِ الصّلاة؛ وقال: {وارْكعُوا مع الرّاكِعِين} والْمُرادُ بِهِ الصّلاةُ، فعبّر عنْ الصّلاةِ بِالرُّكُوعِ؛ لِأنّهُ مِنْ أرْكانِها.
آخِرُ سُورةِ الْمُزّمِّلِ. اهـ.